توفيت أم النبي ﷺ، آمنة بنت وهب، وهي شابة في عمر الخامسة والعشرين، ودفنت فوق جبلٍ بالأبواء حتى يُحفظ قبرها من جرف السيول. وقالت أم أيمن: "هيا يا محمد، عاوني لنحفر قبر أمك." و النبي ﷺ يحفر ويبكي، وأم أيمن تبكي أيضًا، وتُعرض بوجهها عن النبي ﷺ كي لا ينظر إلى قبر أمه. وضعوا آمنة في القبر، وحثوا عليها التراب، ثم أمسكت أم أيمن بيد النبي ﷺ قاصدةً العودة، فيقول النبي ﷺ وهو يبكي: "أمي، أمي!" أي يريد أن يأخذ أمه معه، ولا يتركها وحدها. فتبكي أم أيمن من بكائه، وتدمع لكلام هذا الطفل الذي جاء إلى الدنيا يتيم الأب، والآن يفقد أمه ويصبح يتيمًا للمرة الثانية.
وبعد خمسٍ وخمسين سنة من تلك الحادثة، يعود النبي ﷺ إلى مكة فاتحًا، ومعه عشرات الآلاف من الصحابة. ومرّ بمنطقة الأبواء، وعاد شريط الذكريات المؤلم، فأمر الصحابة بالجلوس. وبدأ ﷺ ينظر في القبور، وكأنه يبحث عن قبرٍ، حتى انتهى إلى قبر أمه، فناجاه طويلًا. ثم ارتفع نحيب رسول الله ﷺ، وبدأ يبكي بكاءً شديدًا. فلما سمع الصحابة رضوان الله عليهم بكاءه، بكوا لبكائه. ثم عاد النبي ﷺ حزينًا يبكي، فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: "يا رسول الله، ما الذي أبكاك؟ لقد أبكيتنا وأفزعتنا!" فجاء النبي ﷺ حزينًا، وجلس عند الصحابة وقال: "أأفزعكم بكائي؟" قالوا: "نعم، يا رسول الله." فقال ﷺ: "إن القبر الذي رأيتموني أناجيه هو قبر آمنة بنت وهب، أمي.
وإني استأذنت ربي في زيارتها، فأذن لي. واستأذنت ربي في الاستغفار لها، فلم يأذن لي. فأخذني ما يأخذ الولدَ للوالدة من الرقة، فذلك الذي أبكاني." فبكى النبي ﷺ، وبكى الصحابة جميعًا، حتى لم يُرَ يومًا بكوا فيه أكثر من ذلك اليوم.
وفي يوم فتح مكة، وبين زحام الناس، هذا يبايع وذاك يعاهد وآخر يبارك، رأى النبي ﷺ عجوزًا طاعنة في السن تمشي من بعيد، تقترب منه حتى أصبحت عنده. ثم بدأت العجوز تنظر إلى النبي ﷺ وتتأمل في وجهه، فلم تعد ترى جيدًا. والنبي ﷺ لا يعرفها، فقال: "من هذه؟" قالوا: "هذه حليمة السعدية، يا رسول الله." فبكى النبي ﷺ، وحضنها، ومسح على رأسها، وقبّل يدها. فاستغرب الصحابة رضوان الله عليهم، فقال النبي ﷺ: "ما بكم؟ هذه أمي، أمي حليمة." فخلع رداءه وفرشه لها، وجلس معها، والنَّاس حوله. فقال: "دعوني، دعوني أنا وأمي ولو لساعة." وكأنه يقول: دعوني أحدِّثها عما حصل لي في تلك السنين، وأشكو لها، دعوني أبكي أمامها دون خجل، كما كنت أبكي عندما كنت رضيعًا.
عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
نسب النبي ﷺ:
إن النبي ﷺ أشرف الناس نسبا، وأكملهم خَلْقًا وخُلُقًا، وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح، منها ما رواه مسلم : أن النبي ﷺ قال : إن الله ﷺ - اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.
وقد ذكر الإمام البخاري نسب النبي ، فقال : محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكر النسب إلى عدنان ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان .
وقال ابن القيم : بعد ذكر النسب إلى عدنان أيضًا : إلى هنا معلوم الصحة، متفق عليه بين النسابين، ولا خلاف البتة، وما فوق عدنان مختلف فيه ولا خلاف بينهم أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام .
وقد جاء عن ابن سعد في طبقاته: «الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل عليه السلام.
وعن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا من يعرف وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا.
قال الذهبي رحمه الله : وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بإجماع الناس، لكن اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء .
لقد كان - وما زال - شرف النسب له المكانة في النفوس، لأن ذا النسب الرفيع لا تنكر عليه الصدارة، نبوة كانت أو ملكا، وينكر ذلك على وضيع النسب، فيأنف الكثير من الانضواء تحت لوائه، ولما كان محمد ﷺ يُعدُّ للنبوة، هيأ الله تعالى له شرف النسب؛ ليكون مساعدًا له على التفاف الناس حوله .
إن معدن النبي ﷺ طيب ونفيس، فهو من نسل إسماعيل الذبيح، وإبراهيم خليل الله، و استجابة لدعوة إبراهيم ، وبشارة أخيه عيسى ، كما حدث هو عن نفسه، فقال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى .
قصة أصحاب الفيل:
هذه الحادثة ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأنت تفاصيلها في كتب السير والتاريخ وذكرها المفسرون في كتبهم :
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفِ مَأْكُولِ ﴾ [سورة الفيل]
أما إشارات الرسول ﷺ إلى الحادث فمنها : أن الرسول الله لما خرج زمن الحديبية سار حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت بها راحلته فقال الناس : حَلْ حَلْ ، فألحت ، فقالوا : خلات القصواء! فقال النبي ﷺ : ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل».
وجاء في السيرة النبوية لأبي حاتم مايلي : كان من شأن الفيل أن ملكا كان باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة، يقال له أبرهة بنى كنيسة بصنعاء فسماها القليس وزعم أنه يصرف إليها حج العرب وحلف أن يسير إلى الكعبة فيهدمها، فخرج ملك من ملوك حِمْيَر فيمن أطاعه من قومه، يُقال له ذو نفر فقاتله ؛ فهزمه أبرهة وأخذه فلما أتي به، قال له ذو نَفَر : أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه، وأوثقه، ثم خرج سائرًا يريد الكعبة، حتى إذا دنا من بلاد خَنْعم، خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال النفيل : أيها الملك، إني عالم بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله، حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتَّب في رجال ثقيف فقال : أيها الملك نحن عبيد لك، ليس لك عندنا خلاف، وليس بيننا وبينك الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه مولى لهم يُقال له : أبو رغال فخرج معهم حتى إذا كان بالمُغَمَّس مات أبو رغال، وهو الذي رجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً، يقال له الأسود بن مقصود على مقدمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم وصاب لعبد المطلب مائتي بعير بالأراك، ثم بعث أبرهة حناطة الحميري إلى أهل مكة فقال : سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حناطة، حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال : إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب : ما عندنا له قتال فقال : سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى الله بينه وبينه فوالله مالنا به قوة قال: فانطلق معي إليه، قال: فخرج معه حتى - قدم العسكر، وكان ذو نفر» صديقا لعبد المطلب، فأتاه فقال : يا ذا نفر هل عندكم من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية ولكن سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فأمره أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال : إن هذا سيد قريش صاحب غير مكة، الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي.
فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل، والوحوش في الجبال يستأذن عليك، وأنه أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً عظيما جسيما وسيما، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره، وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب : أيها الملك إنك قد أصبت في مالاً عظيما فاردده علي، فقال له : لقد أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك، قال : ولم؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وعصمتكم ومنعتكم لأهدمه، فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير لك ! قال : أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، قال: فأمر بإبله فردت عليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريشا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، وعبأ جيشه، وقرب فيله وحمل عليه ما أراد أن يحمل، وهو قائم، فلما حركه وقف، وكاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى فأدخلوا محاجن لهم تحت مراقه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة، فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك، وليس كل القوم أصيب ذلك قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلِ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفِ مأْكُول [سورة الفيل] .
وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعًا يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله ، كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى اليمن، وهو مثل فرخ الطير، فيمن بقي من أصحابه، ثم مات .
وذكر ابن إسحاق له في سيرته، كما نقله ابن هشام عنه في السير، أن عبد المطلب أخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لا هُمَّ إن الــعــبــد يــمــــ
لا يغلبن صليبهم
إن كنت تاركهم وقبل
نع رحلة فامنع حلالك
ومحالهم غدوا محالك
تنا فأمر ما بدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حَلْقَة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، وذكر بعد ذلك ما حدث من هلاك لأبرهة وجيشه .
سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم