يرزق الله عبده في رمضان يقظة القلب بغير استعدادٍ منه، لكن بعض الناس يستيقظ ثم ينام سريعًا، وبعضهم يستيقظ ويبقى يترقى في منازل القرب من الرب، وهؤلاء الذين تناولهم ابن الجوزي بالثناء قائلًا: "ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، همهم صعود وترق، كلما عبروا مقامًا إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا".

تفضل الله على العباد بركن الصيام لعلهم يتقون، ويؤخذ من هذا أن مقصد رمضان الأعلى طهارة القلب من نجاسة الشهوات، لكنَّ رمضانَ جوهرةٌ ثمينة لا تسكن في بيتٍ نجس، شأن جواهر الذهب التي لا توضع إلا في أوعيةٍ كريمة، فإذا جاء رمضان ولم تَسْعَ في إصلاح قلبك وتنظيفه.. تجاوزك إلى من يحسن استقباله واستثماره ويلتقط رسائله، فرحم الله عبدًا زكى نفسه وتعب في ذات الله.

إذا كان يشق عليك النومُ أول الليل والاستيقاظُ في الثلث الأخير منه وتخشى فوات حظِّك من القيام.. فصلِّ التراويح، وبعد نحو ساعةٍ ابدأ بإحياء الليل حتى يغلبك النعاس، وتحتسب نومتك كقومتك، وتجعل ما بين السحور والأذان للدعاء والاستغفار، وبهذا لا يضيع عليك أكثر الليل، وإذا اعتدت ذلك.. وصلت العشر الأواخر من الشهر وقد تيسر لك أن تحيي الليل كله أو جُلَّه، ومن طابت لياليه بالقيام في رمضان طاب له الشهر كله.

إحياءُ الليلِ بالصلاة عملٌ مركزيٌّ في رمضان، وهو أولى من نوافل الرباط حيث لم تكن نوبة الحراسة على المجاهد، ومن تنفَّل بالرِّباط وجمع معه الصلاة فهو أكمل، وما ألذ اجتماع الصلاة والرِّباط على الثغور معًا إذ تجتمع تربية الحراب والمحاريب معًا!

تبصَّر وأنت تدخل إلى رمضان بقول الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله إذ قال فأحسن القول:

ما أجملَ أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها؛ ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى والطويلة المدى ليتخلص من هذه الهَنَات التي تُزري به!

في كل بضعة أيام أنظر إلى أدراج مكتبي لأُذهِب الفوضى التي حلَّت به من قصاصاتٍ متناثرة، وسجلاتٍ مبعثرة، وأوراق أدَّت الغرض منها، فأرتب كل شيء في وضعه الصحيح، ويستقر في سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به.

وغرف البيت وصالاتُه تصبح مشعَّثة مرتبكة عقب أعمال يوم كامل، فإذا الأيدي الدائبة تجول هنا وهناك لتنظف الأثاث المغبر، وتطرد القمامة الزائدة، وتعيد إلى كل شيء نظامه.

ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد؟!
ألا تستحق نفسك أن تتعهد شئونها بين الحين والحين لترى ما عراها من اضطراب فتزيله، وما لحقها من إثم فتنفيه عنها مثلما تنفي القمامة عن الساحات الطهور؟!
ألا تستحق النفس بعد كل مرحلةٍ تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غُنم أو غُرم، وأن نُرجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجَّتها الأزمات وهزَّها العراك الدائب على ظهر الأرض في هذه الدنيا المائجة؟

إنَّ الإنسانَ أحوجُ الخلائقِ إلى التنقيب في أرجاء نفسه، وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك؛ ذلك أن الكيان العقلي والعاطفي للإنسان قلَّما يبقى متماسك اللبنات مع حِدَّةِ الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات، فإذا تُرِك لعوامل الهدم تنال منه فهي آتيةٌ عليه لا محالة، وعندئذٍ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العِقْد إذا انقطع سِلْكُه، وهذا شأن {.. مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] ا. هـ.

About

قناة علمية دعوية